الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}. اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَنْ عُنِيَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَفِيمَنْ نَـزَلَتْ. فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ، كَمَا:- حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا}، أَيْ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَإِنْ قَالُوا إِنَّا قَدْ آمَنَّا بِمَا قَدْ جَاءَنَا مِنْ قَبْلِكَ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَرَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَـزَلَتْ فِي الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا بِنَوَاحِي الْمَدِينَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَوْبِيخًا لَهُمْ فِي جُحُودِهِمْ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَكْذِيبِهِمْ بِهِ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِهِ وَمَعْرِفَتِهِمْ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْهِمْ وَإِلَى النَّاسِ كَافَّةً. وَقَدْ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ صَدْرَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ إِلَى الْمِائَةِ مِنْهَا، نَـزَلَ فِي رِجَالٍ سَمَّاهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ مِنْ أَحْبَارِ يَهُودٍ، مِنَ الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ. كَرِهْنَا تَطْوِيلَ الْكِتَابِ بِذِكْرِ أَسْمَائِهِمْ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَأْوِيلٍ ذَلِكَ قَوْلٌ آخَرُ، وَهُوَ مَا: حَدَّثَنَا بِهِ الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْرِصُ أَنْ يُؤْمِنَ جَمِيعُ النَّاسِ وَيُتَابِعُوهُ عَلَى الْهُدَى، فَأَخْبَرَهُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ إِلَّا مَنْ سَبَقَ لَهُ مِنَ اللَّهِ السَّعَادَةُ فِي الذِّكْرِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَضِلُّ إِلَّا مَنْ سَبَقَ لَهُ مِنَ اللَّهِ الشَّقَاءُ فِي الذِّكْرِ الْأَوَّلِ.
وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا: حُدِّثْتُ بِهِ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: آيَتَانِ فِي قَادَةِ الْأَحْزَابِ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، قَالَ: وَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} [سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ: 28]، قَالَ: فَهُمُ الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ. وَأَوْلَى هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ بِالْآيَةِ تَأْوِيلُ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ. وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ قَوْلٍ مِمَّا قَالَهُ الَّذِينَ ذَكَرْنَا قَوْلَهُمْ فِي ذَلِكَ مَذْهَبٌ. فَأَمَّا مَذْهَبُ مَنْ تَأَوَّلَ فِي ذَلِكَ مَا قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَمَّا أَخْبَرَ عَنْ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَأَنَّ الْإِنْذَارَ غَيْرُ نَافِعهمْ، ثُمَّ كَانَ مِنَ الْكُفَّارِ مِنْ قَدْ نَفَعَهُ اللَّهُ بِإِنْذَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُ، لِإِيمَانِهِ بِاللَّهِ وَبِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بَعْدَ نُـزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ- لَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَـزَلَتْ إِلَّا فِي خَاصٍّ مِنَ الْكُفَّارِ وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ- وَكَانَتْ قَادَةُ الْأَحْزَابِ لَا شَكَّ أَنَّهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَنْفَعُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِإِنْذَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُ، حَتَّى قَتَلَهُمُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ بَدْرٍ- عُلِمَ أَنَّهُمْ مِمَّنْ عَنَى اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَأَمَّا عِلَّتُنَا فِي اخْتِيَارِنَا مَا اخْتَرْنَا مِنَ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ، فَهِيَ أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}، عَقِيبَ خَبَرِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَعَقِيبَ نَعْتِهِمْ وَصِفَتِهِمْ وَثَنَائِهِ عَلَيْهِمْ بِإِيمَانِهِمْ بِهِ وَبِكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ. فَأَوْلَى الْأُمُورِ بِحِكْمَةِ اللَّهِ، أَنْ يُتْلِيَ ذَلِكَ الْخَبَرَ عَنْ كُفَّارِهِمْ وَنُعُوتِهِمْ، وَذَمِّ أَسْبَابِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ، وَإِظْهَارَ شَتْمِهِمْ وَالْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ. لِأَنَّ مُؤْمِنِيهِمْ وَمُشْرِكِيهِمْ- وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَحْوَالُهُمْ بِاخْتِلَافِ أَدْيَانِهِمْ- فَإِنَّ الْجِنْسَ يَجْمَعُ جَمِيعَهُمْ بِأَنَّهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ. وَإِنَّمَا احْتَجَّ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِأَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُشْرِكِي الْيَهُودِ مِنْ أَحْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، الَّذِينَ كَانُوا مَعَ عِلْمِهِمْ بِنُبُوَّتِهِ مُنْكِرِينَ نُبُوَّتَهُ- بِإِظْهَارِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا كَانَتْ تُسِرُّهُ الْأَحْبَارُ مِنْهُمْ وَتَكْتُمُهُ، فَيَجْهَلُهُ عُظْمُ الْيَهُودِ وَتَعْلَمُهُ الْأَحْبَارُ مِنْهُمْ- لِيَعْلَمُوا أَنَّ الَّذِي أَطْلَعَهُ عَلَى عِلْمِ ذَلِكَ، هُوَ الَّذِي أَنْـزَلَ الْكِتَابَ عَلَى مُوسَى. إِذْ كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا قَوْمُهُ وَلَا عَشِيرَتُهُ يَعْلَمُونَهُ وَلَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ قَبْلِ نُـزُولِ الْفُرْقَانِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيُمْكِنَهُمُ ادِّعَاءُ اللَّبْسِ فِي أَمْرِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ فَمِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَأَنَّى يُمْكِنُ ادِّعَاءُ اللَّبْسِ فِي صِدْقِ أُمِّيٍّ نَشَأَ بَيْنَ أُمِّيِّينَ لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ، وَلَا يَحْسُبُ، فَيُقَالُ قَرَأَ الْكُتُبَ فَعَلِمَ، أَوْ حَسَبَ فَنَجَّمَ؟ وَانْبَعَثَ عَلَى أَحْبَارٍ قُرَّاءٍ كَتَبَةٍ- قَدْ دَرَسُوا الْكُتُبَ وَرَأَسُوا الْأُمَمَ- يُخْبِرُهُمْ عَنْ مَسْتُورِ عُيُوبِهِمْ، وَمَصُونِ عُلُومِهِمْ، وَمَكْتُومِ أَخْبَارِهِمْ، وَخَفِيَّاتِ أُمُورِهِمُ الَّتِي جَهِلَهَا مَنْ هُوَ دُونَهُمْ مِنْ أَحْبَارِهِمْ. إِنَّ أَمْرَ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَغَيْرُ مُشْكِلٍ، وَإِنَّ صِدْقَهُ لَبَيِّنٌ. وَمِمَّا يُنْبِئُ عَنْ صِحَّةٍ مَا قُلْنَا- مِنْ أَنَّ الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} هُمْ أَحْبَارُ الْيَهُودِ الَّذِينَ قُتِلُوا عَلَى الْكُفْرِ وَمَاتُوا عَلَيْهِ- اقْتِصَاصُ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَبَأَهُمْ، وَتَذْكِيرُهُ إِيَّاهُمْ مَا أَخَذَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بَعْدَ اقْتِصَاصِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ مَا اقْتَصَّ مِنْ أَمْرِ الْمُنَافِقِينَ، وَاعْتِرَاضِهِ بَيْنَ ذَلِكَ بِمَا اعْتَرَضَ بِهِ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ إِبْلِيسَ وَآدَمَ- فِي قَوْلِهِ: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: وَمَا بَعْدَهَا]، وَاحْتِجَاجُهُ لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِمْ، بِمَا احْتَجَّ بِهِ عَلَيْهِمْ فِيهَا بَعْدَ جُحُودِهِمْ نُبُوَّتَهُ. فَإِذْ كَانَ الْخَبَرُ أَوَّلًا عَنْ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَآخِرًا عَنْ مُشْرِكِيهِمْ، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ وَسَطًا:- عَنْهُمْ. إِذْ كَانَ الْكَلَامُ بَعْضُهُ لِبَعْضٍ تَبَعٌ، إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ بِعُدُولِ بَعْضِ ذَلِكَ عَمَّا ابْتَدَأَ بِهِ مِنْ مَعَانِيهِ، فَيَكُونَ مَعْرُوفًا حِينَئِذٍ انْصِرَافُهُ عَنْهُ. وَأَمَّامَعْنَى الْكُفْرِ فِي قَوْلِهِ {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} فَإِنَّهُ الْجُحُودُ. وَذَلِكَ أَنَّ الْأَحْبَارَ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ جَحَدُوا نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَتَرُوهُ عَنِ النَّاسِ وَكَتَمُوا أَمْرَهُ، وَهُمْ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ. وَأَصْلُ الْكُفْرِ عِنْدَ الْعَرَبِ: تَغْطِيَةُ الشَّيْءِ، وَلِذَلِكَ سَمَّوُا اللَّيْلَ "كَافِرًا "، لِتَغْطِيَةِ ظُلْمَتِهِ مَا لَبِسَتْهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: فَتَذَكَّـرَا ثَقَـلًا رًثِيـدًا، بَعْـدَ مَـا *** أَلْقَـتْ ذُكـاءُ يَمِينَهَـا فِـي كَـافِرِ وَقَالَ لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ: فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمَامُهَا *** يَعْنِي غَطَّاهَا. فَكَذَلِكَ الْأَحْبَارُ مِنْ الْيَهُودِ غَطَّوْا أَمْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَتَمُوهُ النَّاسَ- مَعَ عِلْمِهِمْ بِنُبُوَّتِهِ، وَوُجُودِهِمْ صِفَتَهُ فِي كُتُبِهِمْ- فَقَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِيهِمْ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْـزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 159]، وَهُمُ الَّذِينَ أَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}. وَتَأْوِيلُ "سَوَاءٌ ": مُعْتَدِلٌ. مَأْخُوذٌ مِنَ التَّسَاوِي، كَقَوْلِكَ: "مُتَسَاوٍ هَذَانِ الْأَمْرَانِ عِنْدِي "، و "هُمَا عِنْدِي سَوَاءٌ "، أَيْ هُمَا مُتَعَادِلَانِ عِنْدِي، وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [سُورَةُ الْأَنْفَالِ: 58]، يَعْنِي: أَعْلِمْهُمْ وآذِنْهُمْ بِالْحَرْبِ، حَتَّى يَسْتَوِيَ عِلْمُكَ وَعِلْمُهُمْ بِمَا عَلَيْهِ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ لِلْفَرِيقِ الْآخَرِ. فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ}: مُعْتَدِلٌ عِنْدَهُمْ أَيُّ الْأَمْرَيْنِ كَانَ مِنْكَ إِلَيْهِمْ، الْإِنْذَارُ أَمْ تَرْكُ الْإِنْذَارِ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنونَ، وَقَدْ خَتَمْتُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ: تُغِـذُّ بِـيَ الشَّـهْبَاءُ نَحْـوَ ابْـنِ جَعْفَرٍ *** سَـوَاءٌ عَلَيْهَـا لَيْلُهَـا ونَهَارُهَـا يَعْنِي بِذَلِكَ: مُعْتَدِلٌ عِنْدَهَا فِي السَّيْرِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، لِأَنَّهُ لَا فُتُورَ فِيهِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ وَلَيْـلٍ يَقُـولُ المَـرْءُ مِـنْ ظُلُمَاتِـهِ *** سَـوَاءٌ صَحِيحَـاتُ العُيُـونِ وَعُورُهَا لِأَنَّ الصَّحِيحَ لَا يُبْصِرُ فِيهِ إِلَّا بَصَرًا ضَعِيفًا مِنْ ظُلْمَتِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}، فَإِنَّهُ ظَهَرَ بِهِ الْكَلَامُ ظُهُورَ الِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ خَبَرٌ، لِأَنَّهُ وَقَعَ مَوْقِعَ "أَيّ " كَمَا تَقُولُ: "لَا نُبَالِي أَقَمْتَ أَمْ قَعَدْتَ "، وَأَنْتَ مُخْبِرٌ لَا مُسْتَفْهِمٌ، لِوُقُوعِ ذَلِكَ مَوْقِعَ "أَيّ ". وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَاهُ إِذَا قُلْتَ ذَلِكَ: مَا نُبَالِي أَيُّ هَذَيْنِ كَانَ مِنْكَ. فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ}، لَمَّا كَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَيُّ هَذَيْنِ كَانَ مِنْكَ إِلَيْهِمْ- حَسُنَ فِي مَوْضِعِهِ مَعَ سَوَاءٌ: "أَفَعَلْتَ أَمْ لَمْ تَفْعَلْ ". وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ يَزْعُمُ أَنَّ حَرْفَ الِاسْتِفْهَامِ إِنَّمَا دَخَلَ مَعَ "سَوَاءٌ "، وَلَيْسَ بِاسْتِفْهَامِ، لِأَنَّ الْمُسْتَفْهِمَ إِذَا اسْتَفْهَمَ غَيْرَهُ فَقَالَ: "أَزْيَدٌ عِنْدَكَ أَمْ عَمْرٌو؟ "مُسْتَثْبِتٌ صَاحِبَهُ أَيُّهُمَا عِنْدَهُ. فَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَحَقَّ بِالِاسْتِفْهَامِ مِنَ الْآخَرِ. فَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} بِمَعْنَى التَّسْوِيَةِ، أَشْبَهَ ذَلِكَ الِاسْتِفْهَامَ، إِذْ أَشْبَهَهُ فِي التَّسْوِيَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا الصَّوَابَ فِي ذَلِكَ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إذًا: مُعْتَدِلٌ يَا مُحَمَّدٌ- عَلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَحَدُوا نُبُوَّتَكَ مِنْ أَحْبَارِ يَهُودِ الْمَدِينَةِ بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِهَا، وَكَتَمُوا بَيَانَ أَمْرِكَ لِلنَّاسِ بِأَنَّكَ رَسُولِي إِلَى خَلْقِي، وَقَدْ أَخَذْتُ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ أَنْ لَا يَكْتُمُوا ذَلِكَ، وَأَنْ يُبَيِّنُوهُ لِلنَّاسِ، وُيخْبِرُوهُمْ أَنَّهُمْ يَجِدُونَ صِفَتَكَ فِي كُتُبِهِمْ- أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ، فَإِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَلَا يَرْجِعُونَ إِلَى الْحَقِّ، وَلَا يُصَدِّقُونَ بِكَ وَبِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ. كَمَا:- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}، أَيْ أَنَّهُمْ قَدْ كَفَرُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ مِنْ ذِكْرٍ، وَجَحَدُوا مَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمِيثَاقِ لَكَ، فَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكَ، وَبِمَا عِنْدَهُمْ مِمَّا جَاءَهُمْ بِهِ غَيْرَكَ، فَكَيْفَ يَسْمَعُونَ مِنْكَ إِنْذَارًا وَتَحْذِيرًا، وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مَنْ عِلْمِكَ؟.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَصْلُ الْخَتْمَ: الطَّبْعُ. وَالْخَاتَمُ هُوَ الطَّابَعُ. يُقَالُ مِنْهُ: خَتَمْتُ الْكِتَابَ، إِذَا طَبَعْتَهُ. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَكَيْفَ يَخْتِمُ عَلَى الْقُلُوبِ، وَإِنَّمَا الْخَتْمُ طَبْعٌ عَلَى الْأَوْعِيَةِ وَالظُّرُوفِ وَالْغُلْفِ؟ قِيلَ: فَإِنَّ قُلُوبَ الْعِبَادِ أَوْعِيَةٌ لِمَا أُودِعَتْ مِنَ الْعُلُومِ، وَظُرُوفٌ لِمَا جُعِلَ فِيهَا مِنَ الْمَعَارِفِ بِالْأُمُورِ. فَمَعْنَى الْخَتْمِ عَلَيْهَا وَعَلَى الْأَسْمَاعِ- الَّتِي بِهَا تُدْرَكُ الْمَسْمُوعَاتُ، وَمِنْ قِبَلِهَا يُوصَلُ إِلَى مَعْرِفَةِ حَقَائِقِ الْأَنْبَاءِ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ- نَظِيرُ مَعْنَى الْخَتْمِ عَلَى سَائِرِ الْأَوْعِيَةِ وَالظُّرُوفِ. فَإِنْ قَالَ: فَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ صِفَةٍ تَصِفُهَا لَنَا فَنَفْهَمَهَا؟ أَهِيَ مِثْلُ الْخَتْمِ الَّذِي يُعْرَفُ لِمَا ظَهَرَ لِلْأَبْصَارِ، أَمْ هِيَ بِخِلَافِ ذَلِكَ؟ قِيلَ: قَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي صِفَةِ ذَلِكَ، وَسَنُخْبِرُ بِصِفَتِهِ بَعْدَ ذِكْرِنَا قَوْلَهُمْ: فَحَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عِيسَى الرَّمْلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عِيسَى، عَنِ الْأَعْمَشِ، قَالَ: أَرَانَا مُجَاهِدٌ بِيَدِهِ فَقَالَ: كَانُوا يُرَوْنَ أَنَّ الْقَلْبَ فِي مِثْلِ هَذَا- يَعْنِي الْكَفَّ- فَإِذَا أَذْنَبَ الْعَبْدُ ذَنْبًا ضُمَّ مِنْهُ- وَقَالَ بِإِصْبَعِهِ الْخِنْصَرِ هَكَذَا- فَإِذَا أَذْنَبَ ضُمَّ- وَقَالَ بِإِصْبَعٍ أُخْرَى- فَإِذَا أَذْنَبَ ضُمَّ- وَقَالَ بِإِصْبَعٍ أُخْرَى هَكَذَا، حَتَّى ضَمَّ أَصَابِعَهُ كُلَّهَا، قَالَ: ثُمَّ يُطْبَعُ عَلَيْهِ بِطَابَعٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَكَانُوا يُرَوْنَ أَنَّ ذَلِكَ: الرَّيْنُ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: الْقَلْبُ مِثْلُ الْكَفِّ، فَإِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا قَبَضَ أُصْبُعًا حَتَّى يَقْبِضَ أَصَابِعَهُ كُلَّهَا- وَكَانَ أَصْحَابُنَا يُرُونَ أَنَّهُ الرَّانُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: نُبِّئْتُ أَنَّ الذُّنُوبَ عَلَى الْقَلْبِ تَحُفُّ بِهِ مِنْ نَوَاحِيهِ حَتَّى تَلْتَقِيَ عَلَيْهِ، فَالْتِقَاؤُهَا عَلَيْهِ الطَّبْعُ، وَالطَّبْعُ: الْخَتْمُ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْخَتْمُ، الْخَتْمُ عَلَى الْقَلْبِ وَالسَّمْعِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ مُجَاهِدًا يَقُولُ: الرَّانُ أَيْسَرُ مِنَ الطَّبْعِ، وَالطَّبْعُ أَيْسَرُ مِنَ الْأَقْفَالِ، وَالْأَقْفَالُ أَشَدُّ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِهِ {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ تَكَبُّرِهِمْ، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الِاسْتِمَاعِ لِمَا دُعُوا إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ، كَمَا يُقَالُ: "إِنَّ فُلَانًا لَأَصَمُّ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ "، إِذَا امْتَنَعَ مِنْ سَمَاعِهِ، وَرَفَعَ نَفْسَهُ عَنْ تَفَهُّمِهِ تَكَبُّرًا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْحُقُّ فِي ذَلِكَ عِنْدِي مَا صَحَّ بِنَظِيرِهِ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مَا:- حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَجْلَانَ، عَنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا كَانَتْ نُكْتةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ وَنَـزَعَ وَاسْتَغْفَرَ، صَقَلَتْ قَلْبَهُ، فَإِنَّ زَادَ زَادَتْ حَتَّى تُغْلِقَ قَلْبَهُ، فَذَلِكَ "الرَّانُ " الَّذِي قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ: 14]. فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الذُّنُوبَ إِذَا تَتَابَعَتْ عَلَى الْقُلُوبِ أَغْلَقَتْهَا، وَإِذَا أَغْلَقَتْهَا أَتَاهَا حِينَئِذٍ الْخَتْمُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالطَّبْعُ، فَلَا يَكُونُ لِلْإِيمَانِ إِلَيْهَا مَسْلَكٌ، وَلَا لِلْكُفْرِ مِنْهَا مَخْلَصٌ، فَذَلِكَ هُوَ الطَّبْعُ. وَالْخَتْمُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ}، نَظِيرُ الطَّبْعِ وَالْخَتْمُ عَلَى مَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ مِنَ الْأَوْعِيَةِ وَالظُّرُوفِ، الَّتِي لَا يُوصَلُ إِلَى مَا فِيهَا إِلَّا بِفَضِ ذَلِكَ عَنْهَا ثُمَّ حَلِّهَا. فَكَذَلِكَ لَا يَصِلُ الْإِيمَانُ إِلَى قُلُوبِ مَنْ وَصَفَ اللَّهُ أَنَّهُ خَتَمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، إِلَّا بَعْدَ فَضِّهِ خَاتَمَهُ وَحَلِّهِ رِبَاطَهُ عَنْهَا. وَيُقَالُ لِقَائِلِي الْقَوْلِ الثَّانِي، الزَّاعِمِينَ أَنَّمَعْنَى قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ}، هُوَ وَصْفُهُمْ بِالِاسْتِكْبَارِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الَّذِي دُعُوا إِلَيْهِ مِنَ الْإِقْرَارِ بِالْحَقِّ تَكَبُّرًا: أَخْبِرُونَا عَنِ اسْتِكْبَارِ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْإِقْرَارِ بِمَا دُعُوا إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَسَائِرِ الْمَعَانِي اللَّوَاحِقِ بِهِ- أَفِعْلٌ مِنْهُمْ، أَمْ فِعْلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِهِمْ؟ فَإِنْ زَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ فِعْلٌ مِنْهُمْ- وَذَلِكَ قَوْلُهُمْ- قِيلَ لَهُمْ: فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَتَمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ. وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِعْرَاضُ الْكَافِرِ عَنِ الْإِيمَانِ، وَتَكَبُّرُهُ عَنِ الْإِقْرَارِ بِهِ- وَهُوَ فِعْلُهُ عِنْدَكُمْ- خَتْمًا مِنَ اللَّهِ عَلَى قَلْبِهِ وَسَمْعِهِ، وَخَتْمِهِ عَلَى قَلْبِهِ وَسَمْعِهِ، فِعْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ دُونَ الْكَافِرِ؟ فَإِنْ زَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ- لِأَنَّ تَكَبُّرَهُ وَإِعْرَاضَهُ كَانَا عَنْ خَتْمِ اللَّهِ عَلَى قَلْبِهِ وَسَمْعِهِ، فَلِمَا كَانَ الْخَتْمُ سَبَبًا لِذَلِكَ، جَازَ أَنْ يُسَمَّى مُسَبِّبُهُ بِهِ- تَرَكُوا قَوْلَهُمْ، وَأَوْجَبُوا أَنَّ الْخَتْمَ مِنَ اللَّهِ عَلَى قُلُوبِ الْكُفَّارِ وَأَسْمَاعِهِمْ، مَعْنًى غَيْرُ كُفْرِ الْكَافِرِ، وَغَيْرُ تَكَبُّرِهِ وَإِعْرَاضِهِ عَنْ قَبُولِ الْإِيمَانِ وَالْإِقْرَارِ بِهِ. وَذَلِكَ دُخُولٌ فِيمَا أَنْكَرُوهُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَوْضَحِ الدَّلِيلِ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْمُنْكِرِينَ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ إِلَّا بِمَعُونَةِ اللَّهِ، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَتَمَ عَلَى قُلُوبِ صِنْفٍ مِنْ كُفَّارِ عِبَادِهِ وَأَسْمَاعِهِمْ، ثُمَّ لَمْ يُسْقِطِ التَّكْلِيفَ عَنْهُمْ، وَلَمْ يَضَعْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ فَرَائِضَهُ، وَلَمْ يَعْذِرْهُ فِي شَيْءٍ مِمَّا كَانَ مِنْهُ مِنْ خِلَافِ طَاعَتِهِ بِسَبَبِ مَا فَعَلَ بِهِ مِنَ الْخَتْمِ وَالطَّبْعِ عَلَى قَلْبِهِ وَسَمْعِهِ- بَلْ أَخْبَرَ أَنَّ لِجَمِيعِهِمْ مِنْهُ عَذَابًا عَظِيمًا عَلَى تَرْكِهِمْ طَاعَتَهُ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَنَهَاهُمْ عَنْهُ مِنْ حُدُودِهِ وَفَرَائِضِهِ، مَعَ حَتْمِهِ الْقَضَاءَ عَلَيْهِمْ مَعَ ذَلِكَ، بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَوْلُهُ {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} خَبَرُ مُبْتَدَإٍ بَعْدَ تَمَامِ الْخَبَرِ عَمَّا خَتَمَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ مِنْ جَوَارِحِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ مَضَتْ قِصَصُهُمْ. وَذَلِكَ أَنَّ "غِشَاوَةٌ " مَرْفُوعَةٌ بِقَوْلِهِ {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ}، فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ مُبْتَدَإٍ، وَأَنَّ قَوْلَهُ {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}، قَدْ تَنَاهَى عِنْدَ قَوْلِهِ {وَعَلَى سَمْعِهِمْ}. وَذَلِكَ هُوَ الْقِرَاءَةُ الصَّحِيحَةُ عِنْدَنَا لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اتِّفَاقُ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ وَالْعُلَمَاءِ عَلَى الشَّهَادَةِ بِتَصْحِيحِهَا، وَانْفِرَادُ الْمُخَالِفِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَشُذُوذُهُ عَمَّا هُمْ عَلَى تَخْطِئَتِهِ مُجْمِعُونَ. وَكَفَى بِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ عَلَى تَخْطِئَةِ قِرَاءَتِهِ شَاهِدًا عَلَى خَطَئِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْخَتْمَ غَيْرُ مَوْصُوفَةٍ بِهِ الْعُيُونُ فِي شَيْءٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا فِي خَبَرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا مَوْجُودٌ فِي لُغَةِ أَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ. وَقَدْ قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي سُورَةٍ أُخْرَى: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ}، ثُمَّ قَالَ: {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [سُورَةُ الْجَاثِيَةُ: 23]، فَلَمْ يُدْخِلِ الْبَصَرَ فِي مَعْنَى الْخَتْمِ. وَذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَلَمْ يَجُزْ لَنَا، وَلَا لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، الْقِرَاءَةُ بِنَصْبِ الْغِشَاوَةِ، لِمَا وَصَفْتُ مِنَ الْعِلَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْتُ، وَإِنْ كَانَ لِنَصْبِهَا مَخْرَجٌ مَعْرُوفٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَبِمَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ وَالتَّأْوِيلِ، رُوِيَ الْخَبَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ}، وَالْغِشَاوَةُ عَلَى أَبْصَارِهِمْ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا وَجْهُ مَخْرَجِ النَّصْبِ فِيهَا؟ قِيلَ لَهُ: أَنْ تَنْصِبَهَا بِإِضْمَارِ "جَعَلَ "، كَأَنَّهُ قَالَ: وَجَعَلَ عَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةً، ثُمَّ أَسْقَطَ "جَعَلَ "، إِذْ كَانَ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَقَدْ يُحْتَمَلُ نَصْبُهَا عَلَى إِتْبَاعِهِا مَوْضِعَ السَّمْعِ، إِذْ كَانَ مَوْضِعُهُ نَصْبًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَسَنًا إِعَادَةُ الْعَامِلِ فِيهِ عَلَى "غِشَاوَةٌ "، وَلَكِنْ عَلَى إِتْبَاعِ الْكَلَامِ بَعْضِهِ بَعْضًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ}، ثُمَّ قَالَ: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ}، [سُورَةُ الْوَاقِعَةِ: 22]، فَخَفَضَ اللَّحْمَ وَالْحُورَ عَلَى الْعَطْفِ بِهِ عَلَى الْفَاكِهَةِ، إِتْبَاعًا لِآخِرِ الْكَلَامِ أَوَّلَهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّحْمَ لَا يُطَافُ بِهِ وَلَا بِالْحُورِ الْعِينِ، وَلَكِنْ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ يَصِفُ فَرَسَهُ: عَلَفْتُهَـا تِبْنًـا ومَـاءً بَـارِدًا *** حَـتَّى شَـتَتْ هَمَّالَـةً عَيْنَاهَـا وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَاءَ يُشْرَبُ وَلَا يُعْلَفُ بِهِ، وَلَكِنَّهُ نَصَبَ ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْتُ قَبْلُ، وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ: ورأَيْـتُ زَوْجَـكِ فِـي الـوَغَى *** مُتَقَلِّـدًا سَـيْفًا ورُمْحَـا وَكَانَ ابْنُ جُرَيْجٍ يَقُولُ- فِي انْتِهَاءِ الْخَبَرِ عَنِ الْخَتْمِ إِلَى قَوْلِهِ {وَعَلَى سَمْعِهِمْ}، وَابْتِدَاءِ الْخَبَرِ بَعْدَهُ- بِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِيهِ، وَيَتَأَوَّلُ فِيهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [سُورَةُ الشُّورَى: 24]. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ: حَدَّثَنَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: الْخَتْمُ عَلَى الْقَلْبِ وَالسَّمْعِ، وَالْغِشَاوَةُ عَلَى الْبَصَرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ}، وَقَالَ: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [سُورَةُ الْجَاثِيَةِ: 23]. وَالْغِشَاوَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْغِطَاءُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْحَارِثِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْعَاصِ: تَبِعْتُـكَ إِذْ عَيْنِـي عَلَيْهَـا غِشَـاوَةٌ *** فَلَمَّـا انْجَـلَتْ قَطَعْـتُ نَفْسِـي أَلُومُهَا وَمِنْهُ يُقَالُ: تَغَشَّاهُ الْهَمُّ: إِذَا تَجَلَّلَهُ وَرَكِبَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةُ بَنِي ذُبْيَانَ: هَـلَا سَـأَلْتِ بَنِـي ذُبيَـانَ مَا حَسَبِي *** إِذَا الدُّخَّـانُ تَغَشَّـى الْأَشْـمَطَ البَرَمَـا يَعْنِي بِذَلِكَ: تَجَلَّلَهُ وَخَالَطَهُ. وَإِنَّمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ، أَنَّهُ قَدْ خَتَمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَطَبَعَ عَلَيْهَا- فَلَا يَعْقِلُونَ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَوْعِظَةً وَعَظَهُمْ بِهَا، فِيمَا آتَاهُمْ مِنْ عِلْمِ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ كُتُبِهِ، وَفِيمَا حَدَّدَ فِي كِتَابِهِ الَّذِي أَوْحَاهُ وَأَنْـزَلَهُ إِلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَلَى سَمْعِهِمْ، فَلَا يَسْمَعُونَ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيِّ اللَّهِ تَحْذِيرًا وَلَا تَذْكِيرًا وَلَا حُجَّةً أَقَامَهَا عَلَيْهِمْ بِنُبُوَّتِهِ، فَيَتَذَكَّرُوا وَيَحْذَرُوا عِقَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِصِدْقِهِ وَصِحَّةِ أَمْرِهِ. وَأَعْلَمَهُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ عَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةً عَنْ أَنْ يُبْصِرُوا سَبِيلَ الْهُدَى، فَيَعْلَمُوا قُبْحَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالَةِ وَالرَّدَى. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ، رُوِيَ الْخَبَرُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ}، أَيْ عَنِ الْهُدَى أَنْ يُصِيبُوهُ أَبَدًا بِغَيْرِ مَا كَذَّبُوكَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ رَبِّكَ، حَتَّى يُؤْمِنُوا بِهِ، وَإِنْ آمَنُوا بِكُلِّ مَا كَانَ قَبْلكَ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْهَمْدَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} يَقُولُ: فَلَا يَعْقِلُونَ وَلَا يَسْمَعُونَ. وَيَقُولُ: "وَجَعَلَ عَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَة" يَقُولُ: عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَلَا يُبْصِرُونَ. وَأَمَّا آخَرُونَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَأَوَّلُونَ أَنَّ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنَ الْكَفَّارِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ، هُمْ قَادَةُ الْأَحْزَابِ الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: هَاتَانِ الْآيَتَانِ إِلَى {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} هَمُ {الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ: 28]، وَهُمُ الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَمْ يَدْخُلْ مِنَ الْقَادَةِ أَحَدٌ فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا رَجُلَانِ: أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَالْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ. وَحُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: أَمَّا الْقَادَةُ فَلَيْسَ فِيهِمْ مُجِيبٌ وَلَا نَاجٍ وَلَا مُهْتَدٍ. وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى أَوْلَى هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ بِالصَّوَابِ، فَكَرِهْنَا إِعَادَتَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ عِنْدِي، كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَتَأَوَّلَهُ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَلَهُمْ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِكَ عَذَابٌ عَظِيمٌ. قَالَ: فَهَذَا فِي الْأَحْبَارِ مَنْ يَهُودٍ، فِيمَا كَذَّبُوكِ بِهِ مِنَ الْحَقِّ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ رَبِّكَ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: أَمَّا قَوْلُهُ: "وَمِنَ النَّاسِ "، فَإِنَّ فِي "النَّاس" وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ جَمْعًا لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَإِنَّمَا وَاحِدُهُمْ "إِنْسَانٌ "، وَوَاحِدَتُهُمْ "إِنْسَانَةٌ ". وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ "أُنَاسٌ "أُسْقِطَتِ الْهَمْزَةُ مِنْهَا لِكَثْرَةِ الْكَلَامِ بِهَا، ثُمَّ دَخَلَتْهَا الْأَلِفُ وَاللَّامُ الْمُعَرِّفَتَانِ، فَأُدْغِمَتِ اللَّامُ- الَّتِي دَخَلَتْ مَعَ الْأَلْفِ فِيهَا لِلتَّعْرِيفِ- فِي النُّونِ، كَمَا قِيلَ فِي {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} [سُورَةُ الْكَهْفِ: 38]، عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَّا فِي "اسْمِ اللَّه" الَّذِي هُوَ اللَّهُ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ "النَّاسَ "لُغَةً غَيْرُ "أُنَاسٍ "، وَأَنَّهُ سَمِعَ الْعَرَبَ تَصْغُرُهُ "نُوَيْس" مِنَ النَّاسِ، وَأَنَّ الْأَصْلَ لَوْ كَانَ "أُنَاس" لَقِيلَ فِي التَّصْغِيرِ: "أُنَيس"، فَرُدَّ إِلَى أَصْلِهِ. وَأَجْمَعَ جَمِيعُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَـزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ، وَأَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ صِفَتُهُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ بِأَسْمَائِهِمْ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}، يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَمَنْ كَانَ عَلَى أَمْرِهِمْ. وَقَدْ سُمِّيَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا أَسْمَاؤُهُمْ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، غَيْرَ أَنِّي تَرَكْتُ تَسْمِيَتَهُمْ كَرَاهَةَ إِطَالَةِ الْكِتَابِ بِذِكْرِهِمْ. حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرُ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}، حَتَّى بَلَغَ: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} قَالَ: هَذِهِ فِي الْمُنَافِقِينَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو الْبَاهِلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ مَيْمُونٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نُجَيْحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ إِلَى ثَلَاثَ عَشْرَةَ، فِي نَعْتِ الْمُنَافِقِينَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} هُمُ الْمُنَافِقُونَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، عَنِ ابْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} إِلَى {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، قَالَ: هَؤُلَاءِ أَهْلُ النِّفَاقِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} قَالَ: هَذَا الْمُنَافِقُ، يُخَالِفُ قَوْلُهُ فِعْلَهُ، وَسِرُّهُ عَلَانِيَتَهُ وَمَدْخَلُهُ مَخْرَجَهُ، وَمَشْهَدُهُ مَغِيبَهُ. وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمَّا جَمَعَ لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ فِي دَارِ هِجْرَتِهِ، وَاسْتَقَرَّ بِهَا قَرَارُهُ، وَأَظْهَرَ اللَّهُ بِهَا كَلَّمْتَهُ، وَفَشَا فِي دُوْرِ أَهْلِهَا الْإِسْلَامُ، وَقَهَرَ بِهَا الْمُسْلِمُونَ مَنْ فِيهَا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَذَلَّ بِهَا مَنْ فِيهَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ- أَظْهَرَ أَحْبَارُ يَهُودِهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الضَّغَائِنَ، وَأَبْدَوْا لَهُ الْعَدَاوَةَ وَالشَّنَآنَ، حَسَدًا وَبَغْيًا، إِلَّا نَفَرًا مِنْهُمْ هَدَاهُمُ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ فَأَسْلَمُوا، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 109]، وَطَابَقَهُمْ سِرًّا عَلَى مُعَادَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَبَغْيِهِمُ الْغَوَائِلَ، قَوْمٌ- مِنْ أَرَاهِطِ الْأَنْصَارِ الَّذِينَ آوَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَصَرُوهُ- وَكَانُوا قَدْ عَسَوْا فِي شِرْكِهِمْ وَجاَهِلِيِّتِهِمْ قَدْ سُمُّوا لَنَا بِأَسْمَائِهِمْ، كَرَّهْنَا تَطْوِيلَ الْكِتَابِ بِذِكْرِ أَسْمَائِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ، وَظَاهَرُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ فِي خَفَاءٍ غَيْرِ جِهَارٍ، حِذَارَ الْقَتْلِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَالسِّبَاءِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، وَرُكُونًا إِلَى الْيَهُودِ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ وَسُوءِ الْبَصِيرَةِ بِالْإِسْلَامِ. فَكَانُوا إِذَا لَقُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلَ الْإِيمَانِ بِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ قَالُوا لَهُمْ- حِذَارًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ- : إِنَّا مُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِالْبَعْثِ، وَأَعْطَوْهُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ كَلِمَةَ الْحَقِّ، لِيَدْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ حُكْمَ اللَّهِ فِيمَنِ اعْتَقَدَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنَ الشِّرْكِ، لَوْ أَظْهَرُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا هُمْ مُعْتَقِدُوهُ مِنْ شِرْكِهِمْ. وَإِذَا لَقُوا إِخْوَانَهُمْ مِنَ الْيَهُودِ وَأَهْلِ الشِّرْكِ وَالتَّكْذِيبِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، فَخَلَوْا بِهِمْ قَالُوا: {إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}. فَإِيَّاهُمْ عَنَى جَلَّ ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}، يَعْنِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى خَبَرًا عَنْهُمْ: آمَنَّا بِاللَّهِ- : وَصَدَّقْنَا بِاللَّهِ. وَقَدْ دَلَلْنَا عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْإِيمَانِ: التَّصْدِيقُ، فِيمَا مَضَى قَبْلُ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا. وَقَوْلُهُ: {وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ}، يَعْنِي: بِالْبَعْثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ " الْيَوْمَ الْآخِرَ "، لِأَنَّهُ آخِرُ يَوْمٍ، لَا يَوْمَ بَعْدَهُ سِوَاهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ لَا يَكُونُ بَعْدَهُ يَوْمٌ، وَلَا انْقِطَاعَ لِلْآخِرَةِ وَلَا فَنَاءَ، وَلَا زَوَالَ؟ قِيلَ: إِنَ الْيَوْمَ عِنْدَ الْعَرَبِ إِنَّمَا سُمِّيَ يَوْمًا بِلَيْلَتِهِ الَّتِي قَبْلَهُ، فَإِذَا لَمْ يَتَقَدَّمِ النَّهَارَ لَيْلٌ لَمْ يُسَمَّ يَوْمًا. فَيَوْمُ الْقِيَامَةِ يَوْمٌ لَا لَيْلَ بَعْدَهُ، سِوَى اللَّيْلَةِ الَّتِي قَامَتْ فِي صَبِيحَتِهَا الْقِيَامَةُ، فَذَلِكَ الْيَوْمُ هُوَ آخِرُ الْأَيَّامِ. وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ "الْيَوْمُ الْآخِرُ "، وَنَعْتَهُ بِالْعَقِيمِ. وَوَصْفُهُ بِأَنَّهُ يَوْمٌ عَقِيمٌ، لِأَنَّهُ لَا لَيْلَ بَعْدَهُ. وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}، وَنَفْيُهُ عَنْهُمْ جَلَّ ذِكْرُهُ اسْمَ الْإِيمَانِ، وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَدْ قَالُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ- فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ تَكْذِيبٌ لَهُمْ فِيمَا أَخْبَرُوا عَنِ اعْتِقَادِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِقْرَارِ بِالْبَعْثِ، وَإِعْلَامٌ مِنْهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الَّذِي يُبْدُونَهُ لَهُ بِأَفْوَاهِهِمْ خِلَافُ مَا فِي ضَمَائِرِ قُلُوبِهِمْ، وَضِدُّ مَا فِي عَزَائِمِ نُفُوسِهِمْ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى بُطُولِمَا زَعَمَتْهُ الْجَهْمِيَّةُ: مِنْ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَوْلِ، دُونَ سَائِرِ الْمَعَانِي غَيْرَهُ. وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ فِي كِتَابِهِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ، أَنَّهُمْ قَالُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ}، ثُمَّ نَفَى عَنْهُمْ أَنْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، إِذْ كَانَ اعْتِقَادُهُمْ غَيْرَ مُصَدِّقٍ قِيلَهُمْ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}، يَعْنِي بِمُصَدِّقِينَ " فِيمَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ بِهِ مُصَدِّقُونَ.
الْقَوْلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَخِدَاعُ الْمُنَافِقِ رَبَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، إِظْهَارُهُ بِلِسَانِهِ مِنَ الْقَوْلِ وَالتَّصْدِيقِ، خِلَافَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مِنَ الشَّكِّ وَالتَّكْذِيبِ، لِيَدْرَأَ عَنْ نَفْسِهِ، بِمَا أَظْهَرَ بِلِسَانِهِ، حُكْمَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ- اللَّازِمَ مَنْ كَانَ بِمِثْلِ حَالِهِ مِنَ التَّكْذِيبِ، لَوْ لَمْ يُظْهِرْ بِلِسَانِهِ مَا أَظْهَرَ مِنَ التَّصْدِيقِ وَالْإِقْرَارِ- مِنَ الْقَتْلِ وَالسِّبَاءِ. فَذَلِكَ خِدَاعُهُ رَبَّهُ وَأَهْلَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ يَكُونُ الْمُنَافِقُ لِلَّهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ مُخَادِعًا، وَهُوَ لَا يُظْهِرُ بِلِسَانِهِ خِلَافَ مَا هُوَ لَهُ مُعْتَقِدٌ إِلَّا تَقِيَّةً؟ قِيلَ: لَا تَمْتَنِعُ الْعَرَبُ مِنْ أَنْ تُسَمِّيَ مَنْ أَعْطَى بِلِسَانِهِ غَيْرَ الَّذِي هُوَ فِي ضَمِيرِهِ تَقِيَّةً لِيَنْجُوَ مِمَّا هُوَ لَهُ خَائِفٌ، فَنَجَا بِذَلِكَ مِمَّا خَافَهُ- مُخَادِعًا لِمَنْ تَخَلَّصَ مِنْهُ بِالَّذِي أَظْهَرَ لَهُ مِنَ التَّقِيَّةِ. فَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ، سُمِّيَ مُخَادِعًا لِلَّهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، بِإِظْهَارِهِ مَا أَظْهَرَ بِلِسَانِهِ تَقِيَّةً، مِمَّا تَخَلَّصَ بِهِ مِنَ الْقَتْلِ وَالسِّبَاءِ وَالْعَذَابِ الْعَاجِلِ، وَهُوَ لِغَيْرِ مَا أَظْهَرَ مُسْتَبْطِنٌ. وَذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ- وَإِنْ كَانَ خِدَاعًا لِلْمُؤْمِنِينَ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا- فَهُوَ لِنَفْسِهِ بِذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ خَادِعٌ، لِأَنَّهُ يُظْهِرُ لَهَا بِفِعْلِهِ ذَلِكَ بِهَا، أَنَّهُ يُعْطِيهَا أَمْنِيَّتهَا، وَيُسْقِيهَا كَأْسَ سُرُورِهَا، وَهُوَ مُورِدُهَا بِهِ حِيَاضَ عَطَبِهَا، وَمُجَرِّعُهَا بِهِ كَأْسَ عَذَابِهَا، ومُزِيرُهَا مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ مَا لَا قِبَلَ لَهَا بِهِ. فَذَلِكَ خَدِيعَتُهُ نَفْسَهُ، ظَنًّا مِنْهُ- مَعَ إِسَاءَتِهِ إِلَيْهَا فِي أَمْرِ مَعَادِهَا- أَنَّهُ إِلَيْهَا مُحْسِنٌ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}، إِعْلَامًا مِنْهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ بِإِسَاءَتِهِمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ فِي إِسْخَاطِهِمْ رَبَّهَمُ بِكُفْرِهِمْ وَشَكِّهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ- غَيْرُ شَاعِرِينَ وَلَا دَارِينَ، وَلَكِنَّهُمْ عَلَى عَمْيَاءَ مِنْ أَمْرِهِمْ مُقِيمُونَ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي تَأْوِيلٍ ذَلِكَ، كَانَ ابْنُ زَيْدٍ يَقُولُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: سَأَلَتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زَيْدٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} إِلَى آخَرِ الْآيَةِ، قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ، يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا، أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِمَا أَظْهَرُوا. وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَوْضَحِ الدَّلِيلِ عَلَى تَكْذِيبِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الزَّاعِمِينَ: أَنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ مِنْ عِبَادِهِ إِلَّا مَنْ كَفَرَ بِهِ عِنَادًا، بَعْدَ عِلْمِهِ بِوَحْدَانِيَّتِهِ، وَبَعْدَ تَقَرُّرِ صِحَّةِ مَا عَانَدَ رَبَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِهِ، وَالْإِقْرَارِ بِكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ- عِنْدَهُ. لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ أَخْبَرَ عَنِ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ مِنَ النِّفَاقِ، وَخِدَاعِهِمْ إِيَّاهُ وَالْمُؤْمِنِينَ- أَنَّهُمْ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّهُمْ مُبْطِلُونَ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْبَاطِلِ مُقِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ بِخِدَاعِهِمْ- الَّذِي يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ بِهِ يُخَادِعُونَ رَبَّهُمْ وَأَهْلَ الْإِيمَانِ بِهِ- مَخْدُوعُونَ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا بِتَكْذِيبِهِمْ بِمَا كَانُوا يُكَذِّبُونَ مِنْ نُبُوَّةِ نَبِيِّهِ، وَاعْتِقَادِ الْكُفْرِ بِهِ، وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، وَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ مُصِرُّونَ. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ "الْمُفَاعَلَةَ " لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ فَاعِلَيْنِ، كَقَوْلِكَ: ضَارَبْتُ أَخَاكَ، وَجَالَسْتُ أَبَاكَ- إِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مَجَالِسٌ صَاحِبَهُ وَمُضَارِبَهُ. فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْفِعْلُ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَإِنَّمَا يُقَالُ: ضَرَبْتُ أَخَاكَ، وَجَلَسْتُ إِلَى أَبِيكَ، فَمَنْ خَادَعَ الْمُنَافِقَ فَجَازَ أَنْ يُقَالَ فِيهِ: خَادَعَ اللَّهَ وَالْمُؤْمِنِينَ؟ قِيلَ: قَدْ قَالَ بَعْضُ الْمَنْسُوبِينِ إِلَى الْعِلْمِ بِلُغَاتِ الْعَرَبِ: إِنَّ ذَلِكَ حَرْفٌ جَاءَ بِهَذِهِ الصُّورَةِ أَعْنِي "يُخَادِعُ " بِصُورَةِ "يُفَاعِلُ "، وَهُوَ بِمَعْنَى "يَفْعَلُ "، فِي حُرُوفٍ أَمْثَالِهَا شَاذَّةٍ مِنْ مَنْطِقِ الْعَرَبِ، نَظِيرَ قَوْلِهِمْ: قَاتَلَكَ اللَّهُ، بِمَعْنَى قَتَلَكَ اللَّهُ. وَلَيْسَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ عِنْدِي كَالَّذِي قَالَ، بَلْ ذَلِكَ مِنْ "التَّفَاعُلِ "الَّذِي لَا يَكُونُ إِلَّا مِنِ اثْنَيْنِ، كَسَائِرِ مَا يُعْرَفُ مِنْ مَعْنَى "يُفَاعِلُ وَمُفَاعِل" فِي كُلِّ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَذَلِكَ: أَنَّ الْمُنَافِقَ يُخَادِعُ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِكَذِبِهِ بِلِسَانِهِ- عَلَى مَا قَدْ تَقَدَّمَ وَصْفُهُ- وَاللَّهُ تَبَارَكَ اسْمُهُ خَادِعُهُ، بِخِذْلَانِهِ عَنْ حُسْنِ الْبَصِيرَةِ بِمَا فِيهِ نَجَاةُ نَفْسِهِ فِي آجِلِ مَعَادِهِ، كَالَّذِي أَخْبَرَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 178]، وَبِالْمَعْنَى الَّذِي أَخْبَرَ أَنَّهُ فَاعِلٌ بِهِ فِي الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [سُورَةُ الْحَدِيدِ: 13]، فَذَلِكَ نَظِيرُ سَائِرِ مَا يَأْتِي مِنْ مَعَانِي الْكَلَامِ بِـ "يُفَاعِلُ وَمُفَاعِلٌ ". وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ النَّحْوِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ: لَا تَكُونُ الْمُفَاعَلَةُ إِلَّا مِنْ شَيْئَيْنِ، وَلَكِنَّهُ إِنَّمَا قِيلَ: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ، بِظَنِّهِمْ أَنْ لَا يُعَاقَبُوا، فَقَدْ عَلِمُوا خِلَافَ ذَلِكَ فِي أَنْفُسِهِمْ، بِحُجَّةِ اللَّهِ تَبَارَكَ اسْمُهُ الْوَاقِعَةُ عَلَى خَلْقِهِ بِمَعْرِفَتِهِ، وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ. قَالَ: وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: " وَمَا يَخْدَعُونَ " يَقُولُ: يَخْدَعُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالتَّخْلِيَةِ بِهَا. وَقَدْ تَكُونُ الْمُفَاعَلَةُ مِنْ وَاحِدٍ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ}. إِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَوْ لَيْسَ الْمُنَافِقُونَ قَدْ خَدَعُوا الْمُؤْمِنِينَ- بِمَا أَظْهَرُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنْ قِيلِ الْحَقِّ- عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وذَرَارِيهِمْ حَتَّى سَلِمَتْ لَهُمْ دُنْيَاهُمْ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ كَانُوا مَخْدُوعِينَ فِي أَمْرِ آخِرَتِهِمْ؟ قِيلَ: خَطَأٌ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ خَدَعُوا الْمُؤْمِنِينَ. لِأَنَّا إِذَا قُلْنَا ذَلِكَ، أَوْجَبْنَا لَهُمْ حَقِيقَةَ خُدْعَةٍ جَازَتْ لَهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. كَمَا أَنَّا لَوْ قُلْنَا: قَتَلَ فَلَانٌ فُلَانًا، أَوْجَبْنَا لَهُ حَقِيقَةَ قَتْلٍ كَانَ مِنْهُ لِفُلَانٍ. وَلَكِنَّا نَقُولُ: خَادَعَ الْمُنَافِقُونَ رَبَّهُمْ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَلَمْ يَخْدَعُوهُمْ بَلْ خَدَعُوا أَنْفُسَهُمْ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، دُونَ غَيْرِهَا، نَظِيرَ مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ قَاتَلَ آخَرَ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ وَلَمْ يَقْتُلْ صَاحِبَهُ: قَاتَلَ فَلَانٌ فُلَانًا فَلَمْ يَقْتُلْ إِلَّا نَفْسَهُ، فَتُوجِبُ لَهُ مُقَاتَلَةَ صَاحِبِهِ، وَتَنْفِي عَنْهُ قَتْلَهُ صَاحِبَهُ، وَتُوجِبُ لَهُ قَتْلَ نَفْسِهِ. فَكَذَلِكَ تَقُولُ: "خَادَعَ الْمُنَافِقُ رَبَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ فَلَمْ يَخْدَعْ إِلَّا نَفْسَهُ "، فَتُثْبِتُ مِنْهُ مُخَادِعَةَ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَتَنْفِي عَنْهُ أَنْ يَكُونَ خَدَعَ غَيْرَ نَفْسِهِ، لِأَنَّ الْخَادِعَ هُوَ الَّذِي قَدْ صَحَّتِ الْخَدِيعَةُ لَهُ، وَوَقَعَ مِنْهُ فِعْلُهَا. فَالْمُنَافِقُونَ لَمْ يَخْدَعُوا غَيْرَ أَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ مَالٍ وَأَهْلٍ، فَلَمْ يَكُنَ الْمُسْلِمُونَ مَلَكُوهُ عَلَيْهِمْ- فِي حَالِ خِدَاعِهِمْ إِيَّاهُمْ عَنْهُ بِنِفَاقِهِمْ وَلَا قَبْلَهَا- فَيَسْتَنْقِذُوهُ بِخِدَاعِهِمْ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا دَافَعُوا عَنْهُ بِكَذِبِهِمْ وَإِظْهَارِهِمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ غَيْرَ الَّذِي فِي ضَمَائِرِهِمْ، وَيَحْكُمُ اللَّهُ لَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَذَرَّارِيهِمْ فِي ظَاهِرِ أُمُورِهِمْ بِحُكْمِ مَا انْتَسَبُوا إِلَيْهِ مِنَ الْمِلَّةِ، وَاللَّهُ بِمَا يُخْفُونَ مِنْ أُمُورِهِمْ عَالَمٌ. وَإِنَّمَا الْخَادِعُ مَنْ خَتَلَ غَيْرَهُ عَنْ شَيْئِهِ، وَالْمَخْدُوعُ غَيْرُ عَالِمٍ بِمَوْضِعِ خَدِيعَةِ خَادِعِهِ. فَأَمَّا وَالْمُخَادَعُ عَارِفٌ بِخِدَاعِ صَاحِبِهِ إِيَّاهُ غَيْر لَاحِقِهِ مِنْ خِدَاعِهِ إِيَّاهُ مَكْرُوهٌ، بَلْ إِنَّمَا يَتَجَافَى لِلظَّانِّ بِهِ أَنَّهُ لَهُ مُخَادِعٌ، اسْتِدْرَاجًا، لِيَبْلُغَ غَايَةً يَتَكَامَلُ لَهُ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ لِلْعُقُوبَةِ الَّتِي هُوَ بِهَا مُوقِعٌ عِنْدَ بُلُوغِهِ إِيَّاهَا، وَالْمُسْتَدْرَجُ غَيْرُ عَالِمٍ بِحَالِ نَفْسِهِ عِنْدَ مُسْتَدْرِجِهِ، وَلَا عَارِف بِاطِّلَاعِهِ عَلَى ضَمِيرِهِ، وَأَنَّ إِمْهَالَ مُسْتَدْرِجِهِ إِيَّاهُ، تَرَكَهُ مُعَاقَبَته عَلَى جِرْمِهِ لِيَبْلُغَ الْمُخَاتِلُ الْمُخَادِعُ- مِنِ اسْتِحْقَاقِهِ عُقُوبَةَ مُسْتَدْرِجِهِ، بِكَثْرَةِ إِسَاءَتِهِ، وَطُولِ عِصْيَانِهِ إِيَّاهُ، وَكَثْرَةِ صَفْحِ الْمُسْتَدْرِجِ، وَطُولِ عَفْوِهِ عَنْهُ أَقْصَى غَايَةٍ فَإِنَّمَا هُوَ خَادِعٌ نَفْسَهُ لَا شَكَّ، دُونَ مَنْ حَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ أَنَّهُ لَهُ مُخَادِعٌ. وَلِذَلِكَ نَفَى اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنِ الْمُنَافِقِ أَنْ يَكُونَ خَدَعَ غَيْرَ نَفْسِهِ، إِذْ كَانَتِ الصِّفَةُ الَّتِي وَصَفْنَا صِفَتَهُ. وَإِذْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْخِدَاعِ الْمُنَافِقِ رَبَّهُ وَأَهْلَ الْإِيمَانِ بِهِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ صَائِرٍ بِخِدَاعِهِ ذَلِكَ إِلَى خَدِيعَةٍ صَحِيحَةٍ إِلَّا لِنَفْسِهِ دُونَ غَيْرِهَا، لِمَا يُوَرِّطُهَا بِفِعْلِهِ مِنَ الْهَلَاكِ وَالْعَطَبِ- فَالْوَاجِبُ إذًا أَنْ يَكُونَ الصَّحِيحُ مِنَ الْقِرَاءَةِ: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} دُونَ (وَمَا يُخَادِعُونَ) لِأَنَّ لَفْظَ "الْمُخَادِعِ "غَيْرُ مُوجِبٍ تَثْبِيتَ خَدِيعَةٍ عَلَى صِحَّةٍ، وَلَفْظُ "خَادِع" مُوجِبٌ تَثْبِيتَ خَدِيعَةٍ عَلَى صِحَّةٍ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُنَافِقَ قَدْ أَوْجَبَ خَدِيعَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِنَفْسِهِ بِمَا رَكِبَ مِنْ خِدَاعِهِ رَبَّهُ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ- بِنِفَاقِهِ، فَلِذَلِكَ وَجَبَتِ الصِّحَّةُ لِقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ}. وَمِنَ الدَّلَالَةِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ: (وَمَا يَخْدَعُونَ) أَوْلَى بِالصِّحَّةِ مِنْ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: (وَمَا يُخَادِعُونَ)، أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، فَمُحَالٌ أَنْ يَنْفِيَ عَنْهُمْ مَا قَدْ أَثْبَتَ أَنَّهُمْ قَدْ فَعَلُوهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ تَضَادٌّ فِي الْمَعْنَى، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ مِنَ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَمَا يَشْعُرُونَ}. يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ " وَمَا يَشْعُرُونَ "، وَمَا يَدْرُونَ. يُقَالُ: مَا شَعَرَ فُلَانٌ بِهَذَا الْأَمْرِ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِهِ- إِذَا لَمْ يَدْرِ وَلَمْ يَعْلَمْ- شِعْرًا وَشُعُورًا. وَقَالَ الشَّاعِرُ: عَقَّـوْا بِسَـهْمٍ وَلَـمْ يَشْـعُرْ بِـهِ أَحَـدٌ *** ثُـمَّ اسْـتَفَاءُوا وَقَـالُوا: حَـبَّذَا الْوَضَحُ يَعْنِي بِقَوْلِهِ: لَمْ يَشْعُرْ بِهِ، لَمْ يَدْرِ بِهِ أَحَدٌ وَلَمْ يَعْلَمْ.فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ: أَنَّهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَادِعُهُمْ، بِإِمْلَائِهِ لَهُمْ وَاسْتِدْرَاجِهِ إِيَّاهُمْ، الَّذِي هُوَ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِبْلَاغٌ إِلَيْهِمْ فِي الْحُجَّةِ وَالْمَعْذِرَةِ، وَمِنْهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ خَدِيعَةٌ، وَلَهَا فِي الْآجِلِ مَضَرَّةٌ. كَالَّذِي- : حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ زَيْدٍ عَنْ قَوْلِهِ: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}، قَالَ: مَا يَشْعُرُونَ أَنَّهُمْ ضَرُّوا أَنْفُسَهُمْ، بِمَا أَسَرُّوا مِنَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ. وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا}، قَالَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ حَتَّى بَلَغَ {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} [سُورَةُ الْمُجَادَلَةِ: 18]، قَدْ كَانَ الْإِيمَانُ يَنْفَعُهُمْ عِنْدَكُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَصْلُ الْمَرَضِ: السَّقَمُ، ثُمَّ يُقَالُ ذَلِكَ فِي الْأَجْسَادِ وَالْأَدْيَانِ.فَأَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ فِي قُلُوبِ الْمُنَافِقِينَ مَرَضًا، وَإِنَّمَا عَنَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِخَبَرِهِ عَنْ مَرَضِ قُلُوبِهِمْ، الْخَبَرَ عَنْ مَرَضِ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الِاعْتِقَادِ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا بِالْخَبَرِ عَنْ مَرَضِ الْقَلْبِ، أَنَّهُ مَعْنِيٌّ بِهِ مَرَضُ مَا هُمْ مُعْتَقِدُوهُ مِنَ الِاعْتِقَادِ- اسْتَغْنَى بِالْخَبَرِ عَنِ الْقَلْبِ بِذَلِكَ وَالْكِفَايَةِ عَنْ تَصْرِيحِ الْخَبَرِ عَنْ ضَمَائِرِهِمْ وَاعْتِقَادَاتِهِمْ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ لَجَأَ: وَسَـبَّحَتِ الْمَدِينَـةُ، لَا تَلُمْهَـا، *** رَأَتْ قَمَـرًا بِسُـوقِهِمُ نَهَـارَا يُرِيدُ: وَسَبَّحَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، فَاسْتَغْنَى بِمَعْرِفَةِ السَّامِعِينَ خَبَرَهُ بِالْخَبَرِ عَنِ الْمَدِينَةِ، عَنِ الْخَبَرِ عَنْ أَهْلِهَا. وَمِثْلُهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ الْعَبْسِيِّ: هَـلَا سَـأَلْتِ الْخَـيْلَ يَـا ابْنَـةَ مَالِكٍ؟ *** إِنْ كُـنْتِ جَاهِلَـةً بِمَـا لَـمْ تَعْلَمِـي يُرِيدُ: هَلَّا سَأَلَتِ أَصْحَابَ الْخَيْلِ؟ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: "يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي "، يُرَادُ: يَا أَصْحَابَ خَيْلِ اللَّهِ ارْكَبُوا. وَالشَّوَاهِدُ عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصِيَهَا كِتَابٌ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ لِمَنْ وُفِّقَ لِفَهْمِهِ. فَكَذَلِكَمَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} إِنَّمَا يَعْنِي: فِي اعْتِقَادِ قُلُوبِهِمُ الَّذِي يَعْتَقِدُونَهُ فِي الدِّينِ، وَالتَّصْدِيقِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ- مَرَضٌ وسُقْمٌ. فَاجْتَزَأَ بِدَلَالَةِ الْخَبَرِ عَنْ قُلُوبِهِمْ عَلَى مَعْنَاهُ، عَنْ تَصْرِيحِ الْخَبَرِ عَنِ اعْتِقَادِهِمْ. وَالْمَرَضُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ فِي اعْتِقَادِ قُلُوبِهِمُ الَّذِي وَصَفْنَاهُ: هُوَ شَكُّهُمْ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَتَحَيُّرُهُمْ فِيهِ، فَلَا هُمْ بِهِ مُوقِنُونَ إِيقَانَ إِيمَانٍ، وَلَا هُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ إِنْكَارَ إِشْرَاكٍ، وَلَكِنَّهُمْ، كَمَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، مُذَبْذَبُونَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ يُمَرِّضُ فِي هَذَا الْأَمْرِ أَيْ يُضَعِّفُ الْعَزْمَ وَلَا يُصَحِّحُ الرَّوِيَّةَ فِيهِ. وَبِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، تَظَاهَرَ الْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِهِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}، أَيْ شَكٌّ. وَحُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: الْمَرَضُ: النِّفَاقُ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} يَقُولُ: فِي قُلُوبِهِمْ شَكٌّ. حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}، قَالَ: هَذَا مَرَضٌ فِي الدِّينِ، وَلَيْسَ مَرَضًا فِي الْأَجْسَادِ، قَالَ: وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ قِرَاءَةً، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} قَالَ: فِي قُلُوبِهِمْ رِيبَةٌ وَشَكٌّ فِي أَمْرِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ. وَحُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} قَالَ: هَؤُلَاءِ أَهْلُ النِّفَاقِ، وَالْمَرَضُ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ: الشَّكُّ فِي أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} حَتَّى بَلَغَ {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} قَالَ: الْمَرَضُ: الشَّكُّ الَّذِي دَخَلَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا}. قَدْ دَلَّلْنَا آنِفًا عَلَى أَنَّتَأْوِيلَ الْمَرَضِ الَّذِي وَصَفَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ فِي قُلُوبِ الْمُنَافِقِينَ، هُوَ الشَّكُّ فِي اعْتِقَادَاتِ قُلُوبِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ- فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمْرِ نُبُوَّتِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ- مُقِيمُونَ. فَالْمَرَضُ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ زَادَهُمْ عَلَى مَرَضِهِمْ، نَظِيرُ مَا كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الشَّكِّ وَالْحَيْرَةِ قَبْلَ الزِّيَادَةِ، فَزَادَهُمُ اللَّهُ بِمَا أَحْدَثَ مِنْ حُدُودِهِ وَفَرَائِضِهِ- الَّتِي لَمْ يَكُنْ فَرَضَهَا قَبْلَ الزِّيَادَةِ الَّتِي زَادَهَا الْمُنَافِقِينَ- مِنَ الشَّكِّ وَالْحَيْرَةِ، إِذْ شَكُّوا وَارْتَابُوا فِي الَّذِي أَحْدَثَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ- إِلَى الْمَرَضِ وَالشَّكِّ الَّذِي كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ فِي السَّالِفِ، مِنْ حُدُودِهِ وَفَرَائِضِهِ الَّتِي كَانَ فَرَضَهَا قَبْلَ ذَلِكَ. كَمَا زَادَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ إِلَى إِيمَانِهِمُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ، بِالَّذِي أَحْدَثَ لَهُمْ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالْحُدُودِ إِذْ آمَنُوا بِهِ، إِلَى إِيمَانِهِمْ بِالسَّالِفِ مِنْ حُدُودِهِ وَفَرَائِضِهِ- إِيمَانًا. كَالَّذِي قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي تَنْزِيلِهِ: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [سُورَةُ التَّوْبَةِ: 124]. فَالزِّيَادَةُ الَّتِي زِيدَهَا الْمُنَافِقُونَ مِنَ الرَّجَاسَةِ إِلَى رَجَاسَتِهِمْ، هُوَ مَا وَصَفْنَا. وَالَّتِي زِيدَهَا الْمُؤْمِنُونَ إِلَى إِيمَانِهِمْ، هُوَ مَا بَيَّنَّا. وَذَلِكَ هُوَ التَّأْوِيلُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ.
ذِكْرُ بَعْضِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا}، قَالَ: شَكًّا. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا}، يَقُولُ: فَزَادَهُمُ اللَّهُ رِيبَةً وَشَكًّا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ قِرَاءَةً، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا}، يَقُولُ: فَزَادَهُمُ اللَّهُ رِيبَةً وَشَكًّا فِي أَمْرِ اللَّهِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا}، قَالَ: زَادَهُمْ رِجْسًا، وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} قَالَ: شَرًّا إِلَى شَرِّهِمْ، وَضَلَالَةً إِلَى ضَلَالَتِهِمْ. وَحُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا}، قَالَ: زَادَهُمُ اللَّهُ شَكًّا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْأَلِيمُ: هُوَ الْمُوجِعُ. وَمَعْنَاهُ: وَلَهُمْ عَذَابٌ مُؤْلِمٌ. بِصَرْفِ "مُؤْلِم" إِلَى " أَلِيمٍ "، كَمَا يُقَالُ: ضَرْبٌ وَجِيعٌ بِمَعْنَى مُوجِعٍ، وَاللَّهُ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، بِمَعْنَى مُبْدِعٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ الزُّبَيْدِيِّ: أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ *** يُؤَرِّقُنِي وَأَصْحَابِي هُجُوعُ بِمَعْنَى الْمُسْمِعِ. وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: وَتَرْفَعُ مِنْ صُدُورِ شَمَرْدَلَاتٍ *** يَصُدُّ وُجُوهَهَا وَهَجٌ أَلِيمُ وَيُرْوَى " يَصُكُّ "، وَإِنَّمَا الْأَلِيمُ صِفَةٌ لِلْعَذَابِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَهُمْ عَذَابٌ مُؤْلِمٌ. وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَلَمِ، وَالْأَلَمُ: الْوَجَعُ. كَمَا- : حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَالَ: الْأَلِيمُ، الْمُوجِعُ. حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: الْأَلِيمُ، الْمُوجِعُ. وَحُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ " أَلِيمٌ "، قَالَ: هُوَ الْعَذَابُ الْمُوجِعُ. وَكُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْأَلِيمِ فَهُوَ الْمُوجِعُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}. اخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ فَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ: {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} مُخَفَّفَةَ الذَّالِ مَفْتُوحَةَ الْيَاءِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ عُظْمِ قَرَأَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ. وَقَرَأَهُ آخَرُونَ: "يُكَذِّبُون" بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ عُظْمِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْحِجَازِ وَالْبَصْرَةِ. وَكَأَنَّ الَّذِينَ قَرَءُوا ذَلِكَ، بِتَشْدِيدِ الذَّالِ وَضَمِّ الْيَاءِ، رَأَوْا أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَاأَوْجَبَ لِلْمُنَافِقِينَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ بِتَكْذِيبِهِمْ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَوَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَأَنَّ الْكَذِبَ لَوْلَا التَّكْذِيبُ لَا يُوجِبُ لِأَحَدٍ الْيَسِيرَ مِنَ الْعَذَابِ، فَكَيْفَ بِالْأَلِيمِ مِنْهُ؟ وَلَيْسَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ عِنْدِي كَالَّذِي قَالُوا. وَذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْبَأَ عَنِ الْمُنَافِقِينَ فِي أَوَّلِ النَّبَأِ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، بِأَنَّهُمْ يَكْذِبُونَ بِدَعْوَاهُمُ الْإِيمَانَ، وَإِظْهَارِهِمْ ذَلِكَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، خِدَاعًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا}. بِذَلِكَ مِنْ قِيلِهِمْ، مَعَ اسْتِسْرَارِهِمُ الشَّكَّ وَالرِّيبَةَ، {وَمَا يَخْدَعُونَ} بِصَنِيعِهِمْ ذَلِكَ {إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ، {وَمَا يَشْعُرُونَ} بِمَوْضِعِ خَدِيعَتِهِمْ أَنْفُسَهُمْ، وَاسْتِدْرَاجِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِيَّاهُمْ بِإِمْلَائِهِ لَهُمْ، {فِي قُلُوبِهِمْ} شَكُّ النِّفَاقِ وَرِيبَتُهُ وَاللَّهُ زَائِدُهُمْ شَكًّا وَرِيبَةً بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَهُمْ فِي قِيلِهِمْ ذَلِكَ كَذَبَةٌ، لِاسْتِسْرَارِهِمُ الشَّكَّ وَالْمَرَضَ فِي اعْتِقَادَاتِ قُلُوبِهِمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَوْلَى فِي حِكْمَةِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ، أَنْ يَكُونَ الْوَعِيدُ مِنْهُ لَهُمْ عَلَى مَا افْتُتِحَ بِهِ الْخَبَرُ عَنْهُمْ مِنْ قَبِيحِ أَفْعَالِهِمْ وَذَمِيمِ أَخْلَاقِهِمْ، دُونَ مَا لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ مِنْ أَفْعَالِهِمْ. إِذْ كَانَ سَائِرُ آيَاتِ تَنْزِيلِهِ بِذَلِكَ نَزَلَ، وَهُوَ: أَنْ يَفْتَتِحَ ذِكْرَ مَحَاسِنِ أَفْعَالِ قَوْمٍ، ثُمَّ يَخْتِمُ ذَلِكَ بِالْوَعِيدِ عَلَى مَا افْتُتِحَ بِهِ ذِكْرُهُ مِنْ أَفْعَالِهِمْ، وَيَفْتَتِحُ ذِكْرَ مُسَاوِي أَفْعَالِ آخَرِينَ، ثُمَّ يَخْتِمُ ذَلِكَ بِالْوَعِيدِ عَلَى مَا ابْتَدَأَ بِهِ ذِكْرُهُ مِنْ أَفْعَالِهِمْ. فَكَذَلِكَ الصَّحِيحُ مِنَ الْقَوْلِ- فِي الْآيَاتِ الَّتِي افْتَتَحَ فِيهَاذِكْرَ بَعْضِ مُسَاوِي أَفْعَالِ الْمُنَافِقِينَ- أَنْ يَخْتِمَ ذَلِكَ بِالْوَعِيدِ عَلَى مَا افْتُتِحَ بِهِ ذِكْرُهُ مِنْ قَبَائِحِ أَفْعَالِهِمْ. فَهَذَا هَذَا، مَعَ دَلَالَةِ الْآيَةِ الْأُخْرَى عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا، وَشَهَادَتِهَا بِأَنَّ الْوَاجِبَ مِنَ الْقِرَاءَةِ مَا اخْتَرْنَا، وَأَنَّ الصَّوَابَ مِنَ التَّأْوِيلِ مَا تَأَوَّلْنَا، مِنْ أَنَّ وَعِيدَ اللَّهِ الْمُنَافِقِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ عَلَى الْكَذِبِ الْجَامِعِ مَعْنَى الشَّكِّ وَالتَّكْذِيبِ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ: 1- 2]. وَالْآيَةُ الْأُخْرَى فِي الْمُجَادَلَةِ: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [سُورَةُ الْمُجَادَلَةِ: 16]. فَأَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ- بِقِيلِهِمْ مَا قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ اعْتِقَادِهِمْ فِيهِ مَا هُمْ مُعْتَقِدُونَ- كَاذِبُونَ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّ الْعَذَابَ الْمُهِينَ لَهُمْ، عَلَى ذَلِكَ مِنْ كَذِبِهِمْ. وَلَوْ كَانَ الصَّحِيحُ مِنَ الْقِرَاءَةِ عَلَى مَا قَرَأَهُ الْقَارِئُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: "وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُون" لَكَانَتِ الْقِرَاءَةُ فِي السُّورَةِ الْأُخْرَى: "وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِين" لَمُكَذِّبُونَ، لِيَكُونَ الْوَعِيدُ لَهُمُ الَّذِي هُوَ عَقِيبُ ذَلِكَ وَعِيدًا عَلَى التَّكْذِيبِ لَا عَلَى الْكَذِبِ. وَفِي إِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الصَّوَابَ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} بِمَعْنَى الْكَذِبِ- وَأَنَّ إِيعَادَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيهِ الْمُنَافِقِينَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ كَذِبِهِمْ- أَوْضَحُ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} بِمَعْنَى الْكَذِبِ، وَأَنَّ الْوَعِيدَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُنَافِقِينَ فِيهَا عَلَى الْكَذِبِ- حَقٌّ- لَا عَلَى التَّكْذِيبِ الَّذِي لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ- نَظِيرُ الَّذِي فِي سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ سَوَاءً. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ أَنَّ "مَا" مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ اسْمُهُ {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}، اسْمٌ لِلْمَصْدَرِ، كَمَا أَنَّ "أَن" وَ" الْفِعْلُ "اسْمَانِ لِلْمَصْدَرِ فِي قَوْلِكَ: أُحِبُّ أَنْ تَأْتِيَنِي، وَأَنَّ الْمَعْنَى إِنَّمَا هُوَ بِكَذِبِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ. قَالَ: وَأَدْخَل" كَانَ "لِيُخْبِرَ أَنَّهُ كَانَ فِيمَا مَضَى، كَمَا يُقَالُ: مَا أَحْسَنَ مَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ، فَأَنْتَ تَعْجَبُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ لَا مِنْ كَوْنِهِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّعَجُّبُ فِي اللَّفْظِ عَلَى كَوْنِهِ. وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ يُنْكِرُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ وَيَسْتَخْطِئُهُ، وَيَقُولُ: إِنَّمَا أُلْغِيَت" كَانَ "فِي التَّعَجُّبِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ قَدْ تَقَدَّمَهَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: " حَسَنًا كَانَ زَيْدٌ "وَ" حَسَنٌ كَانَ زَيْد" يُبْطِلُ "كَانَ "، وَيُعْمِلُ مَعَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ الَّتِي بِأَلْفَاظِ الْأَسْمَاءِ، إِذَا جَاءَتْ قَبْل" كَانَ "، وَوَقَعَتْ "كَان" بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَسْمَاءِ. وَأَمَّا الْعِلَّةُ فِي إِبْطَالِهَا إِذَا أُبْطِلَتْ فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَلِشَبَهِ الصِّفَاتِ وَالْأَسْمَاءِ بِـ "فَعَل" وَ" يَفْعَلُ "اللَّتَيْنِ لَا يَظْهَرُ عَمَلَ " كَانَ "فِيهِمَا. أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: " يَقُومُ كَانَ زَيْدٌ "، وَلَا يَظْهَرُ عَمَلُ "كَان" فِي "يَقُومُ "، وَكَذَلِك" قَامَ كَانَ زَيْدٌ ". فَلِذَلِكَ أُبْطِلَ عَمَلُهَا مَعَ "فَاعِل" تَمْثِيلًا بِـ "فَعَل" وَ" يَفْعَلُ "، وَأُعْمِلَتْ مَعَ "فَاعِل" أَحْيَانًا لِأَنَّهُ اسْمٌ، كَمَا تَعْمَلُ فِي الْأَسْمَاءِ. فَأَمَّا إِذَا تَقَدَّمَتْ "كَان" الْأَسْمَاءَ وَالْأَفْعَالَ، وَكَانَ الِاسْمُ وَالْفِعْلُ بَعْدَهَا، فَخَطَّأٌ عِنْدَهُ أَنْ تَكُونَ "كَان" مُبْطَلَةً. فَلِذَلِكَ أَحَالَ قَوْلَ الْبَصْرِيِّ الَّذِي حَكَيْنَاهُ، وَتَأَوَّلَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} أَنَّهُ بِمَعْنَى: الَّذِي يُكَذِّبُونَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ}. اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ: فَرُوِيَ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَمْ يَجِئْ هَؤُلَاءِ بَعْدُ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَثَّامُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، قَالَ: سَمِعْتُ الْمِنْهَالَ بْنَ عَمْرٍو يُحَدِّثُ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: مَا جَاءَ هَؤُلَاءِ بَعْدُ، الَّذِينَ {إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شَرِيكٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي الْأَعْمَشُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ سَلْمَانَ، أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}، قَالَ: مَا جَاءَ هَؤُلَاءِ بَعْدُ. وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا- : حَدَّثَنِي بِهِ مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}، هُمُ الْمُنَافِقُونَ. أَمَّا " لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ "، فَإِنَّ الْفَسَادَ، هُوَ الْكُفْرُ وَالْعَمَلُ بِالْمَعْصِيَةِ. وَحُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} يَقُولُ: لَا تَعْصُوا فِي الْأَرْضِ {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}، قَالَ: فَكَانَ فَسَادُهُمْ ذَلِكَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، لِأَنَّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فِي الْأَرْضِ أَوْ أَمَرَ بِمَعْصِيَتِهِ، فَقَدْ أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ، لِأَنَّ إِصْلَاحَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ بِالطَّاعَةِ. وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِالْآيَةِ تَأْوِيلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَبَارَكَ اسْمُهُ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}، نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ كَانَ مَعْنِيًّا بِهَا كُلُ مَنْ كَانَ بِمِثْلِ صِفَتِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بَعْدَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ يَحْتَمِلُ قَوْلُ سَلْمَانَ عِنْدَ تِلَاوَةِ هَذِهِ الْآيَةِ: " مَا جَاءَ هَؤُلَاءِ بَعْدُ "، أَنْ يَكُونَ قَالَهُ بَعْدَ فَنَاءِ الَّذِينَ كَانُوا بِهَذِهِ الصِّفَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَبَرًا مِنْهُ عَمَّنْ هُوَ جَاءَ مِنْهُمْ بَعْدَهُمْ وَلَمَّا يَجِئْ بَعْدُ، لَا أَنَّهُ عَنَى أَنَّهُ لَمْ يَمْضِ مِمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهُ أَحَدٌ. وَإِنَّمَا قُلْنَا أَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِالْآيَةِ مَا ذَكَرْنَا، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ صِفَةُ مَنْ كَانَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ فِيهِمْ نَزَلَتْ. وَالتَّأْوِيلُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ، مِنْ قَوْلٍ لَا دَلَالَةَ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ أَصْلٍ وَلَا نَظِيرٍ. وَالْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ، الْعَمَلُ فِيهَا بِمَا نَهَى اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْهُ، وَتَضْيِيعُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِحِفْظِهِ، فَذَلِكَ جُمْلَةُ الْإِفْسَادِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي كِتَابِهِ مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ مَلَائِكَتِهِ: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 30]، يَعْنُونَ بِذَلِكَ: أَتُجْعَلُ فِي الْأَرْضِ مَنْ يَعْصِيكَ وَيُخَالِفُ أَمْرَكَ؟ فَكَذَلِكَصِفَةُ أَهْلِ النِّفَاقِ: مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بِمَعْصِيَتِهِمْ فِيهَا رَبَّهُمْ، وَرُكُوبِهِمْ فِيهَا مَا نَهَاهُمْ عَنْ رُكُوبِهِ، وَتَضْيِيعِهِمْ فَرَائِضَهُ، وَشَكِّهِمْ فِي دِينِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ عَمَلًا إِلَّا بِالتَّصْدِيقِ بِهِ وَالْإِيقَانِ بِحَقِيقَتِهِ، وَكَذِبِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ بِدَعْوَاهُمْ غَيْرَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنَ الشَّكِّ وَالرَيْبِ، وَبِمُظَاهَرَتِهِمْ أَهْلَ التَّكْذِيبِ بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ عَلَى أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، إِذَا وَجَدُوا إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا. فَذَلِكَ إِفْسَادُ الْمُنَافِقِينَ فِي أَرْضِ اللَّهِ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ بِفِعْلِهِمْ ذَلِكَ مُصْلِحُونَ فِيهَا. فَلَمْ يُسْقِطِ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْهُمْ عُقُوبَتَهُ، وَلَا خَفَّفَ عَنْهُمْ أَلِيمَ مَا أَعَدَّ مِنْ عِقَابِهِ لِأَهْلِ مَعْصِيَتِهِ- بِحُسْبَانِهِمْ أَنَّهُمْ فِيمَا أَتَوْا مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ مُصْلِحُونَ- بَلْ أَوْجَبَ لَهُمُ الدَّرْكَ الْأَسْفَلَ مِنْ نَارِهِ، وَالْأَلِيمَ مِنْ عَذَابِهِ، وَالْعَارَ الْعَاجِلَ بِسَبِّ اللَّهِ إِيَّاهُمْ وَشَتْمِهِ لَهُمْ، فَقَالَ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ}. وَذَلِكَ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِيهِمْ، أَدَلُّ الدَّلِيلِ عَلَى تَكْذِيبِهِ تَعَالَى قَوْلَ الْقَائِلِينَ: إِنْ عُقُوبَاتِ اللَّهِ لَا يَسْتَحِقُّهَا إِلَّا الْمُعَانِدُ رَبَّهُ فِيمَا لَزِمَهُ مِنْ حُقُوقِهِ وَفُرُوضِهِ، بَعْدَ عِلْمِهِ وَثُبُوتِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِمَعْرِفَتِهِ بِلُزُومِ ذَلِكَ إِيَّاهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}. وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ كَالَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، الَّذِي- : حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}، أَيْ قَالُوا: إِنَّمَا نُرِيدُ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ. وَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ غَيْرُهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ}، قَالَ: إِذَا رَكِبُوا مَعْصِيَةَ اللَّهِ فَقِيلَ لَهُمْ: لَا تَفْعَلُوا كَذَا وَكَذَا، قَالُوا: إِنَّمَا نَحْنُ عَلَى الْهُدَى، مُصْلِحُونَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ كَانَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ، أَعْنِي فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ مُصْلِحُونَ، فَهُمْ لَا شَكَّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ فِيمَا أَتَوْا مِنْ ذَلِكَ مُصْلِحُونَ. فَسَوَاءٌ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالْمُسْلِمِينَ كَانَتْ دَعْوَاهُمُ الْإِصْلَاحَ، أَوْ فِي أَدْيَانِهِمْ، وَفِيمَا رَكِبُوا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَكَذِبِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا أَظْهَرُوا لَهُمْ مِنَ الْقَوْلِ وَهُمْ لِغَيْرِ مَا أَظْهَرُوا مُسْتَبْطِنُونَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مِنَ أَمْرِهِمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ مُحْسِنِينَ، وَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ مُسِيئُونَ، وَلِأَمْرِ اللَّهِ مُخَالِفُونَ. لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ كَانَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ عَدَاوَةَ الْيَهُودِ وَحَرْبَهُمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَلْزَمَهُمُ التَّصْدِيقَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، كَالَّذِي أَلْزَمَ مِنْ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِينَ. فَكَانَ لِقَاؤُهُمُ الْيَهُودَ- عَلَى وَجْهِ الْوِلَايَةِ مِنْهُمْ لَهُمْ- ، وَشَكُّهُمْ فِي نُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيمَا جَاءَ بِهِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ- أَعْظَمَ الْفَسَادِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَهُمْ إِصْلَاحًا وَهُدًى: فِي أَدْيَانِهِمْ أَوْ فِيمَا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْيَهُودِ، فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِيهِمْ: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} دُونَ الَّذِينَ يَنْهَوْنَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، {وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ}. وَهَذَا الْقَوْلُ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ تَكْذِيبٌ لِلْمُنَافِقِينَ فِي دَعْوَاهُمْ. إِذَا أُمِرُوا بِطَاعَةِ اللَّهِ فِيمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَنُهُوا عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فِيمَا نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهُ، قَالُوا: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ لَا مُفْسِدُونَ، وَنَحْنُ عَلَى رُشْدٍ وَهُدًى- فِيمَا أَنْكَرْتُمُوهُ عَلَيْنَا- دُونَكُمْ لَا ضَالُّونَ. فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ مِنْ قِيْلِهِمْ فَقَالَ: أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ الْمُخَالِفُونَ أَمْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، الْمُتَعَدُّونَ حُدُودَهُ، الرَّاكِبُونَ مَعْصِيَتَهُ، التَّارِكُونَ فُرُوضَهُ، وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ وَلَا يَدْرُونَ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ- لَا الَّذِينَ يَأْمُرُونَهُمْ بِالْقِسْطِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَنْهَوْنَهُمْ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} يَعْنِي: وَإِذَا قِيلَ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ وَنَعَتَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}: صَدِّقُوا بِمُحَمَّدٍ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، كَمَا صَدَّقَ بِهِ النَّاسُ. وَيَعْنِي بِـ " النَّاسِ ": الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ وَنُبُوَّتِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. كَمَا- : حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ}، يَقُولُ: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ صَدِّقُوا كَمَا صَدَّقَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ، قُولُوا: إِنَّهُ نَبِيٌّ وَرَسُولٌ، وَإِنَّ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ حَقٌّ، وَصَدِّقُوا بِالْآخِرَةِ، وَأَنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ. وَإِنَّمَا أُدْخِلَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي " النَّاسِ "، وَهُمْ بَعْضُ النَّاسِ لَا جَمِيعُهُمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَعْرُوفِينَ عِنْدَ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ بِأَعْيَانِهِمْ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ الَّذِينَ تُعْرِفُونَهُمْ مَنْ أَهْلِ الْيَقِينِ وَالتَّصْدِيقِ بِاللَّهِ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ. فَلِذَلِكَ أُدْخِلَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِيهِ، كَمَا أُدْخِلَتَا فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 173]، لِأَنَّهُ أُشِيرَ بِدُخُولِهَا إِلَى نَاسٍ مَعْرُوفِينَ عِنْدَ مَنْ خُوطِبَ بِذَلِكَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالسُّفَهَاءُ جَمْعُ سَفِيهٍ، كَمَا الْعُلَمَاءُ جَمْعُ عَلِيمٍ، وَالْحُكَمَاءُ جَمْعُ حَكِيمٍ. وَالسَّفِيهُ: الْجَاهِلُ، الضَّعِيفُ الرَّأْيِ، الْقَلِيلُ الْمَعْرِفَةِ بِمَوَاضِعِ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ. وَلِذَلِكَ سَمَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ سُفَهَاءَ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [سُورَةُ النِّسَاءِ: 5]، فَقَالَ عَامَّةُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: هُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، لِضَعْفِ آرَائِهِمْ، وَقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِمْ بِمَوَاضِعِ الْمَصَالِحِ وَالْمَضَارِّ الَّتِي تُصْرَفُ إِلَيْهَا الْأَمْوَالُ. وَإِنَّمَا عَنَى الْمُنَافِقُونَ بِقِيْلِهِمْ: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ}- إِذْ دُعُوا إِلَى التَّصْدِيقِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَالْإِقْرَارِ بِالْبَعْثِ فَقِيلَ لَهُمْ: آمِنُوا كَمَا آمَنَ [النَّاسُ]- أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ وَأَتْبَاعُهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ بِهِ، مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ، وَالتَّصْدِيقِ بِاللَّهِ، وَبِمَا افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي كِتَابِهِ، وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ. فَقَالُوا إِجَابَةً لِقَائِلِ ذَلِكَ لَهُمْ: أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ أَهْلُ الْجَهْلِ، وَنُصَدِّقُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا صَدَّقَ بِهِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا عُقُولَ لَهُمْ وَلَا أَفْهَامَ؟ كَالَّذِي- : حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ}، يَعْنُونَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} يَعْنُونَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ}، قَالَ: هَذَا قَوْلُ الْمُنَافِقِينَ، يُرِيدُونَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} يَقُولُونَ: أَنَقُولُ كَمَا تَقُولُ السُّفَهَاءُ؟ يَعْنُونَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِخِلَافِهِمْ لِدِينِهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ نَعْتُهُ لَهُمْ، وَوَصْفُهُ إِيَّاهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ مِنَ الشَّكِّ وَالتَّكْذِيبِ- أَنَّهُمْ هُمُ الْجُهَّالُ فِي أَدْيَانِهِمْ، الضُّعَفَاءُ الْآرَاءِ فِي اعْتِقَادَاتِهِمْ وَاخْتِيَارَاتِهِمُ الَّتِي اخْتَارُوهَا لِأَنْفُسِهِمْ، مِنَ الشَّكِّ وَالرَّيْبِ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ وَأَمْرِ نُبُوَّتِهِ، وَفِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَمْرِ الْبَعْثِ، لِإِسَاءَتِهِمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَا أَتَوْا مِنْ ذَلِكَ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ إِلَيْهَا يُحْسِنُونَ. وَذَلِكَ هُوَ عَيْنُ السَّفَهِ، لِأَنَّ السَّفِيهَ إِنَّمَا يُفْسِدُ مِنْ حَيْثُ يَرَى أَنَّهُ يُصْلِحُ، وَيُضَيِّعُ مِنْ حَيْثُ يَرَى أَنَّهُ يَحْفَظُ، فَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ: يَعْصِي رَبَّهُ مِنْ حَيْثُ يَرَى أَنَّهُ يُطِيعُهُ، وَيَكْفُرُ بِهِ مِنْ حَيْثُ يَرَى أَنَّهُ يُؤَمِنُ بِهِ، وَيُسِيءُ إِلَى نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ يَحْسَبُ أَنَّهُ يُحْسِنُ إِلَيْهَا، كَمَا وَصَفَهُمْ بِهِ رَبُّنَا جَلَّ ذِكْرُهُ، فَقَالَ: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ}، وَقَالَ: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ}- دُونَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ بِاللَّهِ وَبِكِتَابِهِ، وَبِرَسُولِهِ وَثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ- {وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ}. وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَتَأَوَّلُ هَذِهِ الْآيَةَ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ}، يَقُولُ: الْجُهَّالُ، {وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ}، يَقُولُ: وَلَكِنْ لَا يَعْقِلُونَ. وَأَمَّا وَجْهُ دُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي "السُّفَهَاءِ "، فَشَبِيهٌ بِوَجْهِ دُخُولِهِمَا فِي" النَّاسِ "فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ}، وَقَدْ بَيَّنَّا الْعِلَّةَ فِي دُخُولِهِمَا هُنَالِكَ، وَالْعِلَّةُ فِي دُخُولِهِمَا فِي" السُّفَهَاءِ "نَظِيرَتُهَا فِي دُخُولِهِمَا فِي" النَّاسِ " هُنَالِكَ، سَوَاءٌ. وَالدَّلَالَةُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ خَطَأِ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْعُقُوبَةَ مِنَ اللَّهِ لَا يَسْتَحِقُّهَا إِلَّا الْمُعَانِدُ رَبَّهُ، بَعْدَ عِلْمِهِ بِصِحَّةِ مَا عَانَدَهُ فِيهِ- نَظِيرُ دَلَالَةِ الْآيَاتِ الْأُخَرِ الَّتِي قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا تَأْوِيلَهَا فِي قَوْلِهِ {وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ}، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرَةُ الْآيَةِ الْأُخْرَى الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِيهَا عَنِ الْمُنَافِقِينَ بِخِدَاعِهِمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ}. ثُمَّ أَكْذَبَهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}، وَأَنَّهُمْ بِقِيلِهِمْ ذَلِكَ يخُادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا. وَكَذَلِكَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ- لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ بِاللَّهِ وَكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ- بِأَلْسِنَتِهِمْ: آمَنَّا وَصَدَّقْنَا بِمُحَمَّدٍ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، خِدَاعًا عَنْ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَذَرَارِيهِمْ، وَدَرْءًا لَهُمْ عَنْهَا، وَأَنَّهُمْ إِذَا خَلَوْا إِلَى مَرَدَتِهِمْ وَأَهْلِ الْعُتُوِّ وَالشَّرِّ وَالْخُبْثِ مِنْهُمْ وَمِنْ سَائِرِ أَهْلِ الشِّرْكِ الَّذِينَ هُمْ عَلَى مِثْلِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَبِكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ- وَهُمْ شَيَاطِينُهُمْ، وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا عَلَى أَنَّ شَيَاطِينَ كُلِّ شَيْءٍ مَرَدَتُهُ- قَالُوا لَهُمْ: "إِنَّا مَعَكُمْ "، أَيْ إِنَّا مَعَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، وَظُهَرَاؤُكُمْ عَلَى مَنْ خَالَفَكُمْ فِيهِ، وَأَوْلِيَاؤُكُمْ دُونَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} بِاللَّهِ وَبِكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ وَأَصْحَابِهِ، كَالَّذِي- : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا}، قَالَ: كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْيَهُودِ إِذَا لَقُوا أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بَعْضَهُمْ، قَالُوا: إِنَّا عَلَى دِينِكُمْ. وَإِذَا خَلَوْا إِلَى أَصْحَابِهِمْ، وَهُمْ شَيَاطِينُهُمْ، قَالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} قَالَ: إِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ مِنْ يَهُودَ، الَّذِينَ يَأْمُرُونَهُمْ بِالتَّكْذِيبِ وَخِلَافِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ}، أَيْ إِنَّا عَلَى مِثْلِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ}، أَمَّا شَيَاطِينُهُمْ، فَهُمْ رُءُوسُهُمْ فِي الْكُفْرِ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ الْعَقَدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} أَيْ رُؤَسَائِهِمْ فِي الشَّرِّ {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ}، قَالَ: الْمُشْرِكُونَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو الْبَاهِلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ مَيْمُونٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ}، قَالَ: إِذَا خَلَا الْمُنَافِقُونَ إِلَى أَصْحَابِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، عَنْ شِبْلِ بْنِ عَبَّادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ}، قَالَ: أَصْحَابُهُمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ}، قَالَ: إِخْوَانُهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا}، قَالَ: إِذَا أَصَابَ الْمُؤْمِنِينَ رَخَاءٌ قَالُوا: إِنَّا نَحْنُ مَعَكُمْ، إِنَّمَا نَحْنُ إِخْوَانُكُمْ، وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمُ اسْتَهْزَءُوا بِالْمُؤْمِنِينَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: وَقَالَ مُجَاهِدٌ: شَيَاطِينُهُمْ: أَصْحَابُهُمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: أَرَأَيْتَ قَوْلَهُ {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ}؟ فَكَيْفَ قِيلَ: {خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ}، وَلَمْ يَقُلْ خَلَوْا بِشَيَاطِينِهِمْ؟ فَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْجَارِيَ بَيْنَ النَّاسِ فِي كَلَامِهِمْ: "خَلَوْتُ بِفُلَان" أَكْثَرَ وَأَفْشَى مِنْ: " خَلَوْتُ إِلَى فُلَانٍ "، وَمِنْ قَوْلِكَ: إِنَّ الْقُرْآنَ أَفْصَحُ الْبَيَانِ! قِيلَ: قَدِ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ. فَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ يَقُولُ: يُقَالُ "خَلَوْتُ إِلَى فُلَان" إِذَا أُرِيدَ بِهِ: خَلَوْتُ إِلَيْهِ فِي حَاجَةٍ خَاصَّةٍ. لَا يَحْتَمِلُ- إِذَا قِيلَ كَذَلِكَ- إِلَّا الْخَلَاءَ إِلَيْهِ فِي قَضَاءِ الْحَاجَةِ. فَأَمَّا إِذَا قِيلَ: "خَلَوْتُ بِه" احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْخَلَاءُ بِهِ فِي الْحَاجَةِ، وَالْآخَرُ فِي السُّخْرِيَةِ بِهِ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ}، لَا شَكَّ أَفْصَحُ مِنْهُ لَوْ قِيلَ "وَإِذَا خَلَوْا بِشَيَاطِينِهِمْ "، لِمَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ: " إِذَا خَلَوْا بِشَيَاطِينِهِمْ " مِنِ الْتِبَاسِ الْمَعْنَى عَلَى سَامِعِيهِ، الَّذِي هُوَ مُنْتَفٍ عَنْ قَوْلِهِ: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ}. فَهَذَا أَحَدُ الْأَقْوَالِ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: فَأَنْ تُوَجِّهَ مَعْنَى قَوْلِهِ {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ}، "وَإِذَا خَلَوْا مَعَ شَيَاطِينِهِمْ "، إِذْ كَانَتْ حُرُوفُ الصِّفَاتِ يُعَاقِبُ بَعْضُهَا بَعْضًا، كَمَا قَالَ اللَّهُ مُخْبِرًا عَنْ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أَنَّهُ قَالَ لِلْحِوَارِيِّينَ: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [سُورَةُ الصَّفِّ: 14]، يُرِيدُ: مَعَ اللَّهِ. وَكَمَا تُوضَع" عَلَى "فِي مَوْضِع" مِنْ "، وَ" فِي "وَ" عَن" وَ" الْبَاءِ "، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ *** لَعَمْرُ اللهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا بِمَعْنَى عَنِّي. وَأَمَّا بَعْضُ نَحْوِيِّي أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَتَأَوَّلُ أَنَّ ذَلِكَ بِمَعْنَى: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا، وَإِذَا صَرَفُوا خَلَاءَهُمْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ- فَيَزْعُمُ أَنَّ الْجَالِبَ لِـ "إِلَى "، الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ: مِنِ انْصِرَافِ الْمُنَافِقِينَ عَنْ لِقَاءِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ خَالِينَ بِهِمْ، لَا قَوْلُه" خَلَوْا ". وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لَا يَصْلُحُ فِي مَوْضِعِ "إِلَى" غَيْرُهَا، لِتَغَيُّرِ الْكَلَامِ بِدُخُولِ غَيْرِهَا مِنَ الْحُرُوفِ مَكَانَهَا. وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي أَوْلَى بِالصَّوَابِ، لِأَنَّ لِكُلِّ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْمَعَانِي وَجْهًا هُوَ بِهِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ فَلَا يَصْلُحُ تَحْوِيلُ ذَلِكَ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ إِلَّا بِحُجَّةٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا. وَلِـ "إِلَى" فِي كُلِّ مَوْضِعٍ دَخَلَتْ مِنَ الْكَلَامِ حُكْمٌ، وَغَيْرُ جَائِزٍ سَلْبُهَا مَعَانِيَهَا فِي أَمَاكِنِهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}. أَجْمَعَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ جَمِيعًا- لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ- عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}: إِنَّمَا نَحْنُ سَاخِرُونَ. فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذًا: وَإِذَا انْصَرَفَ الْمُنَافِقُونَ خَالِينَ إِلَى مَرَدَتِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ قَالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّكْذِيبِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَمُعَادَاتِهِ وَمُعَادَاةِ أَتْبَاعِهِ، إِنَّمَا نَحْنُ سَاخِرُونَ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِقِيلِنَا لَهُمْ إِذَا لَقِينَاهُمْ: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ كَمَا- : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالُوا: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}، سَاخِرُونَ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}، أَيْ: إِنَّمَا نَحْنُ نَسْتَهْزِئُ بِالْقَوْمِ وَنَلْعَبُ بِهِمْ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ الْعَقَدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}، إِنَّمَا نَسْتَهْزِئُ بِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ وَنَسْخَرُ بِهِمْ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}، أَيْ نَسْتَهْزِئُ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
|